(روايةً ودرايةً)
أوّلاً: تخريجُ الحديثِ:
أخرجه أحمدُ (4/388، ح19472)، وأبو داود (كتاب الأدب: باب في الجِلسة المكروهة) (4/413، ح4850) - ومن طريقه البيهقيُّ في (السنن الكبرى) ( كتاب الجمعة: باب ما يكره من الجلوس) (3/236، ح5713)، وفي (كتاب الآداب) (باب ما يكره من الجلوس) (ص/332)- ، وابنُ حبّان في (صحيحه) (كتاب الحظر والإباحة: باب التّواضع والكبر والعجب: ذكر الزجر عن اتّكاء المرء على يده اليسرى خلف ظهره في جلوسه) (12/488، ح5674) ، والطبرانيُّ في (المعجم الكبير) (7/316، ح 7242)، والحاكم في (المستدرك) (كتاب الأدب) (4/299، ح 7703)، والخطيب في (الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع) (1/402، ح 945) من طرق عن عيسى بن يونس-ومن طريق مِنْدَل أيضاً عند الطبراني (ح7243)(1)-، عن ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ الله r وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا؛ وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِيَ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي، وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي؛ فَقَالَ: « أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ». واللفظ لأحمد وأبي داود، وعند ابن حبّان نحوه، وزاد في آخره: « قال ابن جريج : وضع راحتيه على الأرض وراء ظهره »، وزاد البيهقيُّ: « قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ الْقَاسِمُ: أَلْيَةُ الْكَفِّ: أَصْلُ الإِبْهَامِ وَمَا تَحْتَهُ ».
والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: « هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ »، ولم يتعقّبه الذّهبيُّ، وأشار إلى تصحيحه عبد الحق الإشبيليُّ في (الأحكام الكبرى) (3/125) بسكوته عليه(2)، وصحّح إسنادَه النَّووي في (رياض الصالحين) (ح/824).
وقد خولف عيسى بن يونس في هذا الحديث؛ إذ أخرجه عبد الرّزاق في (المصنّف) (كتاب الصّلاة: باب الرجل يجلس معتمداً على يديه في الصلاة) (2/198، ح3057) : عن ابنِ جريج قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة أنّه سمع عمرو بن الشريد يخبر عن النبي r: « أنّه كان يقول في وضع الرجل شماله إذا جلس في الصلاة: هي قعدة المغضوب عليهم». فأرسل الحديث، ولم يصله؛ لأنّ عمرو بن الشّريد تابعيٌّ، وجعل النّهي خاصّا بالصّلاةِ.
وعبد الرزاق صاحبُ (المصنّف) ذكره العلائيُّ في (المختلطين) (ص/74)، وقال: «أتيته قبل المئتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره فهو ضعيف السماع» قال عنه الحافظ في (التّقريب:4064): « ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهيرٌ، عمِي في آخر عمرِه فتغيّر».
وهذا الحديث من رواية إسحاق الدَّبَريّ عنه - كما بيّنته رواية ابن حزم في (المحلّى) (4/19)-، وهو ممّن سمع من عبد الرّزاق بعد التغيّر؛ فقد قال ابنُ الصّلاح في (المقدّمة) (ص/248): «قد وَجدتُّ فيما رُوي عن الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم الدبريّ عن عبد الرزاق أحاديثَ استنكرتُها جِدّاً؛ فأحلْتُ أمرَها على ذلك- يعني: التّغيّر-؛ فـإنّ سماعَ الدَّبَريِّ منه مُتأخِّرٌ جدًّا»(3).
ويؤكّد هذا وقوعِ المخالفةِ من عبد الرّزاق لـ(الثّقة المأمون): عيسى بن يونس في سند هذا الحديث ومتنه؛ فالرّاجحُ رواية عيسى بن يونس المسندة إلى النبيّ r، المطلقة عن التّقييد بالصّلاةِ.
ولكنّ النّهيَ عن هذه الجلسة في الصّلاة محفوظٌ من حديثِ ابنِ عمر، وهو حديثٌ آخرُ غيرُ حديثِ عمرو بن الشّريد هذا.
أخرجه عبد الرّزاق في (المصنّف) (كتاب الصّلاة: باب الرجل يجلس معتمداً على يديه في الصلاة) (2/197، ح3054)- وعنه أحمد (2/147)، ومن طريقه أبو داود (كتاب الصّلاة: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصّلاة) (1/325، ح992)، وابنُ خزيمة في (صحيحه) (كتاب الصّلاة: باب الزجر عن الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة ) (1/343، ح692)، والسّراج في (مسنده) (1/86، ح169)، والحاكم (كتاب الإمامة وصلاة الجماعة: باب الـتأمين) (1/353، ح 837)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (2/135، ح2633) (كتاب الصّلاة: باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض)- عن معمر عن إسماعيل بن أميّة عن نافع عن ابن عمر قال: « نهى رسول الله r أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه ». وسكت أبو داود عن الحديث، وقال الحاكم: « هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ الشّيخين»، ولم يتعقّبه الذّهبيُّ بشيء.
واللفظُ المذكور لفظُ رواية عبد الرزاق في (المصنّف)، وأحمد والسّرّاج(4) في (المسند). وفي رواية أبي داود عن أحمد: (على يده).
وفي رواية أحمد ابن شبُّويه عند أبي داود، وأحمد بن يوسف السّلمي عند البيهقيّ: (نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ فِي الصَّلاَةِ).
وفي رواية ابْنُ عَبْدِ المَلِكِ عند أبي داود: (نَهَى أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا نَهَضَ فِي الصَّلاَةِ).
وفي رواية أحمد عند الحاكم والبيهقيّ، ومحمد بن سهل بن عسكر والحسين بن مهدي عند ابن خزيمة، وإسحاق ابن راهويه عند الحاكم: (نهى رسول الله r إذا جلس الرجلُ في الصّلاة أن يّعتمد على يده اليسرى).
وهذه الرّواية هي أبينُ الرّواياتِ وأوضحُها، والرّواياتُ الأخرى لا تخالفُها-لأنّها مجملةٌ-؛ عدا رواية ابن عبد الملكِ فإنّها وهمٌ؛ كما قال البيهقيّ، وهي مخالفة لرواية الثّقات؛ كما يظهر من سياقِ الرّوايات، وقد فصّل الكلام عليها شمس الحق العظيم آبادي في (عون المعبود شرح سنن أبي داود) (3/198-199).
وقد استدلّ البيهقيُّ على أنّ الرّوايةَ الأخيرةَ هي المرادةُ في حديث ابنِ عمر؛ برواية هشامِ بن يوسف الحديثَ متابعاً لعبدِ الرّزاق عن معمر بلفظ مقاربٍ مفسِّر؛ وذلك ما أخرجه الحاكم في (المستدرك) (كتاب الإمامة وصلاة الجماعة: باب الـتأمين) (1/406، ح1007)- ومن طريقه البيهقي في (السّنن الكبرى) (كتاب الصّلاة: باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض) (2/136، ح2636)- من طريق إبراهيم بن موسى ثنا هشام بن يوسف عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر : (أَنَّ النَّبِيَّ r نَهَى رَجُلاً وَهُوَ جَالِسٌ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاَةِ، وَقَالَ :«إِنَّهَا صَلاَةُ الْيَهُودِ»). وقال الحاكم: « هذا حديثٌ صحيحٌ على شرطِ الشّيخين»، ولم يتعقّبه الذّهبيُّ بشيء، ولكن هشام بن يوسف -وهـو الصّنعانيّ– خـرّج لـه البخاريّ، ولم يخـرّج لـه مسلمٌ- كـما في (تهـذيب الـكمال) (30/265) للمزّيّ، وفروعه-؛ فالحديث على شرط البخاريّ.
كما أيّد البيهقيُّ ما ذهب إليه برواية أخرى موقوفةٍ عن ابن عمر: أخرجها أبو داود (كتاب الصّلاة: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصّلاة) (1/326، ح994)، والبيهقي في (السّنن الكبرى) (كتاب الصّلاة: باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض) (2/136، ح2636)- من طريق عن هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر : (أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَتَّكِئُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الصَّلاَةِ - وَقَالَ هَارُونُ بْنُ زَيْدٍ: سَاقِطًا عَلَى شِقِّهِ الأَيْسَرِ- فَقَالَ لَهُ: لاَ تَجْلِسْ هَكَذَا؛ فَإِنَّ هَكَذَا يَجْلِسُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ). واللّفظ لأبي داود.
وهشام بن سعد هو المدني؛ أخرج له مسلم في الشّواهد لا في الأصول، وهو «صدوق له أوهام» -كما في (تقريب التّهذيب) (7294)-؛ فالإسناد حسن، وليس على شرط مسلم.
وقد اختلف فيه على هشام؛ فرواه هكذا موقوفاً: زيدُ بن أبي الزّرقاء وابنُ وهبٍ-عند أبي داود-، وجعفرُ بنُ عونٍ -عند البيهقيّ-.
وخالفهم محمّد بن عبد الله بن الزّبير؛ فرواه عن هشام مرفوعاً: أخرجه أحمد (2 / 116): ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا هشام -يعني: ابن سعد- عن نافع عن ابن عمر : (أنّ رسولَ اللهِ r رأى رجلاً ساقطاً يدُه في الصّلاة؛ فقال: لا تجلسْ هكذا؛ إنّما هذه جِلسةُ الّذين يعذّبون).
ولعلّ الأرجحَ – من هذا الوجه- روايةُ الوقفِ؛ لأنّ رواتَها جماعةٌ من الثقاتِ، والجماعةُ أولى بالحفظِ من الواحدِ.
وتابع هشامَ بن سعد على حديثِه: محمّدُ بنُ عَجْلان؛ أخرجه عبد الرّزاق في (المصنّف) (كتاب الصّلاة: باب الرجل يجلس معتمدا على يديه في الصلاة) (2/198، ح3056) عنه عن نافع عن ابن عمر (أنّه رأى رجلاً جالساً معتمداً بيدِه على الأرض فقال: «إنّك جلستَ جِلْسةَ قومٍ عُذّبوا»). ولم يقيّده بالصّلاةِ.
وابنُ عجلان صدوق، أخرج له مسلم في الشّواهد، وفي روايته عن نافع كلام؛ حتّى قال يحيى القطّان-كما في (ميزان الاعتدال) (3/644)-: «كان مضطرباً في حديث نافع»، ولكنّها هنا متابعة؛ فهي لا بأس بها في الجملة.
ولكنْ خالف ابنُ جريج هشامَ بن سعد وابنَ عجلان في متن هذا الحديث؛ فقد أخرجه عبد الرّزاق في (المصنّف) (كتاب الصّلاة: باب الرجل يجلس معتمدا على يديه في الصلاة) (2/197، ح 3055) عنه عن نافع: (أنّ ابن عمر رأى رجلاً جالساً معتمداً على يديه فقال : «ما يجلسُك في صلاتِك جُلوسَ المغضوبِ عليهم»).
وابنُ جريج سبق أنّه من رجال الشّيخين، وهو من الأثبات في نافع؛ حتّى قال يحي القطّان-كما في (شرح العلل) (1/165)-: «ابن جريج أثبت في نافع من مالك»؛ فروايته أرجح من رواية هشام وابن عجلان مجتمعَين، وخاصّة أنّ روايته هي الموافقة لحديثه المرفوع عن النّبيّ r، والله أعلم .
يتبيّن من التّخريج السّابق، وسياق روايات الحديث: أنّ جلسة المغضوب عليهم جاء فيها حديثان مختلفان: أحدهما: حديث الشّريد بن سويد؛ ينهى عن هذه الجلسة خارج الصّلاة. والثّاني: حديث ابن عمر؛ ينهى عنها داخل الصّلاة، وعلى هذا دلّ صنيع المحدّثين في تبويبهم الذي ضمّنوه فقههم، وعمل شرّاح الحديث وغيرهم.
1- فحديثُ الشّريدِ بن سويد: أخرجه الإمامُ أبو داود في (كتاب الأدب: باب في الجِلسة المكروهة)، والبيهقيُّ في (كتاب الجمعة: باب ما يُكرَه من الجلوس)، وفي (كتاب الآداب: باب ما يُكرَه من الجلوس)، وابنُ حبّان في (باب التّواضع والكبر والعجب: ذكر الزجر عن اتّكاء المرء على يده اليسرى خلف ظهره في جلوسه)، والحاكمُ في (كتاب الأدب)، والخطيب التّبريزي في (كتاب الآداب: باب الجلوس والنّوم والمشي) من كتابه (مشكاة المصابيح) (3/24، ح4730).
وقال الخطيبُ قبيل إيراده الحديثَ في آدابِ المحدِّث في مجلسه في كتابه (الجامع لأخلاق الرّاوي): «ويُكره أن يجعلَ يدَهُ وراءَ ظهرِه، ويتّكِئَ عليها»،
وقال الملّا عليّ القاري في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) (8/526-527):
«والأَلْية: بفتح الهمزة اللَّحمة الّتي في أصل الإبهامِ. (فقال) أي منكرا عليّ (أتقعدُ قِعْدة المغضوب عليهم) القِعدة: بالكسر للنوع والهيئة. والظاهرُ: أنّ عكسَ فعلِه أيضاً يتعلّق به الإنكارُ، وكذا وضعُ اليدينِ وراءَ ظهرِه متّكئاً عليهما من قُعُد المتكبرين، لكن في أخذه من الحديث محلُّ تردُّدٍ(5).
قال الطِّيبي: والمراد بالمغضوب عليهم اليهود، وفي التخصيص بالذكر فائدتان: إحداهما: أنّ هذه القِعْدةَ ممّا يبغضُه اللهُ تعالى. والأخرى: أنّ المسلم ممّن أنعم الله عليه؛ فينبغي أن يجتنب التّشبّه بمن غضب الله عليه ولعنه اهـ.
وفي كون اليهود هم المرادُ من المغضوب عليهم ها هنا محلُّ بحث، وتتوقّف صحّتُه على أن يّكونَ هذا شعارَهم.
والأظهرُ: أن يُّرادَ بالمغضوبِ عليهم أعمّ من الكفارِ، والفجّارِ، المتكبّرين المتجبّرين ممّن تظهر آثارُ العُجْب والكِبْر عليهم من قعودِهم ومشيِهم ونحوِهما، نعم! ورد في حديث صحيح: أنّ المغضوب عليهم في سورة الفاتحة هم اليهود ».
ونقل كلامه بشيء من الاختصار شمس الحقّ العظيم آبادي في (عون المعبود شرح سنن أبي داود) (13/135).
وقال ابنُ مفلح في (الآداب الشرعية) (3 / 146):
« ويُكره أن يّتكِئ أحدٌ على يده اليسرى من وراء ظهره»، ثّم أورد الحديث.
وقال السّفّارينيُّ في (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) (2 / 76):
« (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ (اتِّكَاؤُهُ) سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الأَكْلِ ، أَوْ غَيْرِهِ (عَلَى يَدِهِ) أَيْ يَدِ نَفْسِهِ (الْيُسْرَى) حَالَ كَوْنِهَا (وَرَاءَ) أَيْ خَلْفَ (ظَهْرِهِ)؛ لِأَنَّهَا جِلْسَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »، ثمّ ذكر الحديث.
وقال السّيوطيُّ في (الحاوي للفتاوي) (1/287)؛ لمّا سئل عن المراد بالمغضوب عليهم في الحديث، وهل هم المذكورون في سورة الفاتحة؟
« الجواب : نعم المراد بالمغضوب عليهم في الحديث المذكورون في سورة الفاتحة؛ وهم اليهود، وقد أورده النّوويُّ في (شرح المهذب) مستدلاً به على كراهة هذه القعدة؛ لفعل اليهود لها، وأورد بعده حديث البخاري عن عائشة أنّها كانت تكره أن يجعل الرجل يده في خاصرته، وتقول : «إن اليهود تفعله »؛ فدلّ على أنّ المقصود كراهة التشبه باليهود في كيفية قعودهم ».
واستدلال الإمام النّوويّ الّذي أشار إليه السّيوطيُّ جاء عنده في (المجموع شرح المهذّب) (4/399) عند ذكره مسألة في جواز القعود متربعاً ومفترشاً ومتورِّكاً ومحتبياً...إلخ، وتحت نحو هذا الباب أورده في رياض الصّالحين (1/437).
وجاء في (الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة) (36/133) (مجلس):
«وَهُنَاكَ هَيْئَةٌ فِي الجُلُوسِ تَدُل عَلَى التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْقَسْوَةِ؛ نَهَى عَنْهَا الرَّسُول r فِيمَا رَوَاهُ الشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ t ... »، وأورد الحديث.
وقال الشّيخ ابن باز رحمه الله - كما في مجموع فتاوى (25 / 162)-؛ لمّا سئل عن النّهي عن هذه الجلسة، وهل هو خاصٌّ بالصلاة أم على العموم؟
« ج: نعم ورد حديثٌ في إنكارِ النّبيّ r في ذلك، والذي يظهر أنّه عامٌّ في الصلاة، وغير الصلاة؛ كونه يتكئ على يده اليسرى يتكئ على إليتها؛ هكذا ظاهر الحديث المنع من ذلك ».
وهو ظاهر فتوى اللجنة الدّائمة للإفتاء بالسعوديّة؛ حيث سئلت عن جلسة المغضوب عليهم المنهي عنها؛ فأجابت بأنّها الواردة في حديث الشّريد بن سويد، واكتفت بإيراد الحديث، دون تعليق عليه. انظر: (فتاوى اللجنة الدائمة) (26/110-111).
2- وأمّا حديثُ ابنِ عمر: فقد أخرجه عبد الرّزاق في (كتاب الصّلاة: باب الرجل يجلس معتمداً على يديه في الصلاة)، وأبو داود في (كتاب الصّلاة: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصّلاة)، وابنُ خزيمة في (كتاب الصّلاة: باب الزجر عن الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة )، والحاكم في (كتاب الإمامة وصلاة الجماعة)، والبيهقي في (كتاب الصّلاة: باب الاعتماد بيديه على الأرض إذا نهض).
وأخرجه ابنُ حزمٍ في (المحلّى) (4 / 18-19) تحت (مسألة: ومن تعمد في الصلاة وضع يده على خاصرته بطلت صلاته، وكذلك من جلس في صلاته متعمّدا أن يتعمّد على يده أو يديه!).
قال الملاّ عليّ القاري في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) (3/455):
«قال ميرك نقلاً عن الأزهار: قيل: معنى قوله: (أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده) أن يّضع يدَه في التّشهّد على الأرض ويتكئ عليها. وقيل: هو أن يجلس الرّجلُ في الصلاة ويرسلَ اليدين إلى الأرض من فخذيه. وقيل: هو أن توضع على الأرض قبل الركبتين في الهوي. وقيل: هو أن يّضعَ يديهِ على الأرض عند القيام. والأوّلُ أقربُ إلى اللفظ؛ يعني: والأخير هو في غاية من البعد في اللفظ والمعنى؛ إذ معناه لا يلائم النهي عن الجلوس، وأيضا: لو حمل على المعنى الأخير لتناقضت الروايتان عن راو واحد ».
ونقل كلامَ صاحب الأزهار شمسُ الحقّ العظيم آبادي في (عون المعبود) (3/199)..
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار) (2/384): «والحديث الأول- يعني حديث ابن عمر- بجميع ألفاظه(6) يدل على كراهة الاعتماد على اليدين عند الجلوس، وعند النّهوض، وفي مطلق الصّلاة . وظاهر النّهي التّحريم، وإذا كان الاعتمادُ على اليد كذلك؛ فعلى غيرها بالأولى».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم ) (4 / 129):
«وأيضاً: عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة؛ فقال له: «لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون») وفي رواية: « تلك صلاة المغضوب عليهم »، وفي رواية: « نهى رسول الله r : أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده » رواهن أبو داود.
ففي هذا الحديث: النهي عن هذه الجلسة معلّلةً بأنها جلسة المعذّبين، وهذه مبالغةٌ في مجانبة هديهم».
والله أعلم، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
وحدة البحث العلمي
إدارة الإفتاء
___________________
(1) ولكنْ مندلٌ- وهو ابن علي العنزي- ضعيف؛ كما قال الإمام أحمد (انظر: ميزان الاعتدال 4/180للذّهبيّ)، والرّاوي عنه يحيى الحمّاني على حفظه إلا أنّه اتّهم بسرقة الحديث (انظر: تقريب التّهذيب:7591)؛ فهي متابعةٌ ضعيفةٌ جدّا.
(2) انظر: (أصل صفة الصلاة) (3 / 837) للألبانيّ. وقد قال في الحكم على الحديث: «وهو على شرط الشّيخين»، وذلك لأنّ رجاله كلّهم من رجالهما، وابن جريج وإن كان قد وُسم بالتّدليس؛ إلا أنّ تدليسه قليلٌ-كما ذكر الحافظ في (فتح الباري) (5/200)-، ثمّ إنّه ورد تصريحه بالسّماع عند عبد الرّزاق؛ كما سيأتي.
(3) وبعضهم يجعل هذه المناكير من الدّبريّ لا من عبد الرّزاق، والرّاجح أنّها من عبد الرّزاق، ولا تلحق الدّبريَّ تبعتُها، والله أعلم. انظر: (لسان الميزان) (1/349) لابن حجر.
(4) رواه السّراج عن محمد بن رافع ومحمّد بن منصور الرّمادي عن عبد الرّزاق، ورواية أبي داود عن محمّد بن رافع بلفظ: (نَهَى أَنْ يُصَلّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ).
وأمّا ما رواه أبو داود (كتاب الصّلاة: باب كراهية الاعتماد على اليد في الصّلاة) (1/326، ح993) عن عبد الوارث عن إسماعيل بن أمية قال: سألتُ نافعاً عن الرجل يصلي وهو مشبّك يديه؟ قال: قال ابن عمر: «تلك صلاة المغضوب عليهم»؛ فالظّاهر أنّه حديث آخر، والله أعلم. وانظر: (صحيح أبي داود) (4/148-149) للألباني.
(5) يرى بعض العلماء: أنّه لا يكره من هذه الجلسة إلا ما جاء في الحديث؛ وهو وضع اليد اليسرى خلف الظّهر متكئاً على أليتها، وأمّا وضع اليد اليمنى، أو اليدين كلتيهما على هذه الهيئة؛ فلا يدخل في النّهي. انظر: (شرح رياض الصّالحين) (2/662) لابن عثيمين.
(6) هذا على القول بثبوت جميعها وعدم رجوع بعضها إلى بعض، وقد علمت من التخريج سابقاً ما هو الراجح في ذلك ، وخاصة أن مخرجها واحد .
وقد أيّد قولَ الشّوكانيِّ، ونقَل كلامَه السهارنفوريُّ في (بذل المجهود في حل أبي داود) (5/325-326).